منذ حوالي 100 عام خلت، كانت جزيرة الشيطان عبارة عن مستعمرة فرنسية، وما بين عامي 1852 إلى 1953، ضمت الجزيرة سجناء تراوحت جرائمهم ما بين إهانة نابليون الثالث إلى جرائم القتل، وما أكثر أولئك الذين قضوا نحبهم هناك دون أن يرتكبوا ذنباً على الإطلاق.
قبل ذلك التاريخ كانت تلك الجزيرة (المكونة في الواقع من 3 جزر متجاورة) ملاذاً لأولئك الباحثين عن الخلاص الروحي والاستشفاء، فكثيراً ما قصدها المستوطنون الفرنسيون المصابون بالحمى الصفراء خلال ستينيات القرن الثامن عشر.
وقد أطلق على هذه الجزر عدة تسميات منها إيل رويال، وإيل سانت جوزيف تيمناً بالقديس الشهير، كما أطلق عليها أيضاً اسم إيل دو ديابل (جزيرة الشيطان) بسبب انتشار أسماك القرش في مياهها.
لكن وبعد اعتلاء الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث العرش، لم تعد تلك الجزيرة تستقبل سوى السجناء الذين عانوا من سوء المعاملة ونقص التغذية والأمراض؛ مما أدى إلى موت معظمهم.
وبالرغم من أن الجزيرة ضمت أنواعاً مختلفة من السجناء، إلا أن المعتقلين السياسيين كانوا أبرزهم، فقد عمد نابليون إلى استخدام “جزيرة الشيطان” للتخلص من أي شخصٍ يعارض الانقلاب الذي قام به في ديسمبر/كانون الأول 1951.
وقد افتتح نابليون سجنه الجديد بعد أيام فقط من اعتلائه السلطة، وكانت أول دفعة من السجناء تضم 239 سياسياً من الجمهوريين الذين عارضوا انتزاعه السلطة.
كانت السفن المحملة بالسجناء تبحر نحو غينيا الفرنسية، وصولاً إلى جزيرة الشيطان، وقد لقي العديد من السجناء حتفهم في رحلة العبور تلك قبل الوصول إلى الجزيرة حتى.
ففي الطريق إلى الجزيرة قُيّد السجناء ووضعوا في أقفاص وفي أحيانٍ كثيرة كانت تندلع بينهم الشجارات التي تودي بحياة واحدٍ منهم أو أكثر. بالإضافة إلى أن الضباط المسؤولين في تلك السفن استخدموا البخار والكبريت لعقاب من يعصي الأوامر.
وعند وصول السفن، كان السجناء يذهبون أولاً إلى سان لوران دو ماروني، وهي مدينة تقع على نهر ماروني في غينيا الفرنسية. وهناك كان يجري تقسيمهم إلى فئات؛ فمنهم من يبقى في معسكر موجود في المدينة ويجبر على العمل بالسخرة، أما أولئك “المغضوب عليهم” فيرسلون إلى جزيرة الشيطان.
ولكن السجناء- سواء في المعسكر أو الجزيرة- فغالباً ما كانوا لا يستطيعون الصمود كثيراً. إذ كان أكثر من 40% منهم لا يُكملون عامهم الأول، وكانوا يموتون واحداً تلو الآخر؛ إما بسبب المرض أو نقص الطعام أو بسبب سوء المعاملة من قبل الحراس.
وقد عرفت مستعمرة جزيرة الشيطان لاحقاً باسم “المقصلة الجافة” بسبب ارتفاع معدلات الوفيات فيها.
أما أولئك الذين كتبت لهم النجاة فإن أغلبهم لم يعُد إلى فرنسا قط، فقد اقتضى القانون أن السجناء الذين تنتهي مدة عقوبتهم سيحرمون من دخول بلدهم ولن يسمح لهم بالعودة إلى فرنسا حتى يقضوا مدة إضافية مساوية لمدة العقوبة الأصلية في غينيا الفرنسية.. أما أولئك المحكوم عليهم بمدة تتجاوز الـ8 أعوام فسيبقون منفيين في غينيا إلى الأبد بعد انتهاء فترة عقوبتهم، وفقاً لما ورد في موقع Prison History.
ألفريد دريفوس.. أحد أشهر مساجين جزيرة الشيطان
من بين عشرات الآلاف من المسجونين الذي أدوا عقوبتهم في جزيرة الشيطان، برز اسم واحد: ألفريد دريفوس.
في عام 1894 أدانت الحكومة الفرنسية دريفوس، ضابط الجيش الشاب، بالخيانة. وفي مراسم عامة، انتزع زملاؤه الضباط أوسمته من على صدره وكسروا سيفه وساروا به هاتفين باستهزاء “الموت ليهوذا، الموت لليهودي”.
أصر دريفوس على براءته، وكان قد اتُّهم بإفشاء أسرار عسكرية للألمان، لكن خط يده لم يُشبه الأدلة المعروضة في المحكمة. والحقيقة أنه في الوقت الذي توقف فيه الولاء الوطني لفرنسا على اعتناق الكاثوليكية، كانت إدانة دريفوس قائمة على يهوديته أكثر من أي شيء آخر، وفقاً لما ورد في موقع All That’s Interesting الأمريكي.
أصدرت الحكومة حكماً على دريفوس بالسجن المؤبد في جزيرة الشيطان.
ولمدة 4 أعوام طوال، تحمل دريفوس حياة مؤلمة في جزيرة الشيطان. فقد احتُجز في زنزانة معزولة، وكُبل في سريره، وأُطعم لحماً فاسداً، وحُرم من الكلام مع السجناء الآخرين.
ولكن في فرنسا، كان التيار قد بدأ يتحول إلى صالحه. وفي خطاب مفتوح بعنوان “أنا أتَّهِم” (J’accuse!)، اتهم الكاتب الفرنسي إيميل زولا الحكومة الفرنسية بتلفيق التهمة إلى دريفوس في عملية تستر ضخمة.
تنزانيا..المغني “بن بول” يعلن اعتناقه الإسلام
لماذا نحب شخصا بعينه أو نصوت لمرشح دون آخر؟
“لأني مسلمة”.. اعتقال ناشطة مسلمة وطردها من طائرة أميركية
رضخت الحكومة الفرنسية في النهاية، وعرضت العفو عن دريفوس عام 1899، وقد قبله على الرغم من أن ذلك كان يعني اعترافه بارتكاب تلك الجريمة.
قال دريفوس: “أعادت لي حكومة الجمهورية حريتي، لكن ذلك لا يعني لي شيئاً دون شرفي”.
ولم تبرئ الحكومة الفرنسية دريفوس بالكامل حتى عام 1906.
عملية الهروب الشهيرة لهنري تشاريير
من سجناء جزيرة الشيطان المشهورين أيضاً هنري تشاريير، الذي تمكن من الفرار بدوره من السجن، على اختلاف الطريقتين كلياً.
أُرسل تشاريير، رجل العصابات الباريسي السابق، إلى جزيرة الشيطان عام 1931. ومع أنه ادعى براءته، فقد أُدين بقتل قوادٍ وحُكم عليه بالسجن المؤبد.
لكن تشاريير بدأ يُخطط لهروبه بمجرد أن وصل إلى الجزيرة. وبعد قضاء ثلاثة أعوام من عقوبته، بدأ يُنفذ أولى محاولات الهروب. ومما يثير الإعجاب أن تشاريير نجح في الابتعاد عن الجزيرة، لكن السلطات الفرنسية سريعاً ما أعادته وحكمت عليه بسنتين في الحبس الانفرادي.
لم يرتدع تشاريير وحاول الهرب 7 مرات أخرى. وخلافاً للآخرين لم يكن تشاريير ليستسلم، إذ في محاولته الثامنة، استطاع الهرب على طوافة بناها من جوز الهند.
أبحر تشاريير في البحر المليء بأسماك القرش ووصل إلى فنزويلا. وهناك، استقر وأنشأ عائلة وألف كتابه الصادم بعنوان “بابليون”- اسم عصابته- الذي حكى فيه عن المدة التي قضاها على جزيرة الشيطان.
أصدرت الحكومة الفرنسية عفواً رسمياً عن تشاريير عام 1970، ولاحقاً أنتجت هوليوود فيلماً مستوحى من كتابه عام 1973 بنفس الاسم، بطولة ستيف ماكوين وداستن هوفمان.
جزيرة الشيطان اليوم
توقفت الحكومة الفرنسية رسمياً عن إرسال السجناء إلى الجزيرة في عام 1938، غير أن اندلاع الحرب العالمية الثانية حال دون إغلاقها بالكامل، وتواصل إرسال قليل من السجناء الآخرين حتى عام 1946.
ولم يرحل آخر معتقل في جزيرة الشيطان حتى عام 1953.
وفي السنوات المئة التي كانت جزيرة الشيطان فيها سجناً، وصل عدد سجنائها إلى 80 ألفاً، وبالرغم من أن الجزيرة عادت لتستقبل الزوار والسياح بعد ذلك إلا أن أنقاض السجن الذي لا يزال موجوداً في الأدغال إلى اليوم يعتبر الذكرى التعيسة الباقية من الأيام الخوالي.
المصدر/عربي بوست