تنكر إسرائيل وقوع الإبادة الجماعية التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية بحق الأرمن، بداية القرن الماضي، وسعت بشكل فاعل جدا من أجل التأثير على دول كي لا تعترف بهذه المجازر. ووثق ملف اكتشف في الأرشيف الإسرائيلي، مؤخرا، الجهود الإسرائيلية من أجل منع عقد مؤتمر أكاديمي في إسرائيل حول محرقة اليهود وإبادة الأرمن، في العام 1982، حسبما جاء في تقرير نشرته صحيفة “هآرتس” اليوم، الجمعة.
واعترف الرئيس الأميركي، جو بايدن، السبت الماضي، بالإبادة بحق الأرمن، ليكون أول رئيس للولايات المتحدة يصف مقتل 1.5 مليون أرمني على يد السلطنة العثمانية عام 1915، بأنه “إبادة شعب”.
وقالت الصحيفة إنه بعد النشر عن عقد المؤتمر، في نيسان/أبريل 1982، لم تتوقف محاولات وزارة الخارجية الإسرائيلية عن إحباطه. وفي أعقاب ذلك، ألغت مؤسسة “يد فَشِم” لتخليد ذكرى المحرقة رعايتها للمؤتمر، ورفضت جامعة تل أبيب المشاركة فيه، وتعهد معهد “هنرييتا سالد” بعدم تمويله، واستقال الناجي من المحرقة والحاصل على جائزة نوبل للسلام، إيلي فيزل، من رئاسة المؤتمر، كما قاطع مؤرخون كبار المؤتمر. وفي نهاية الأمر، عُقد المؤتمر من دون إطار إسرائيلي رسمي ولم يلقَ مضمونه الرواج الذي خطط له المبادرون.
وجاء في إحدى الوثائق التي احتواها الملف في الأرشيف: “نواصل العمل من أجل تقليص وانكماش الموضوع الأرمني بقدر استطاعتنا وبأي طريقة ممكنة. ونواصل العناية المكثفة والشاملة من أجل إلغاء المؤتمر، أو على الأقل إخراج البند الأرمني من أجندته”.
وسعت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى إلغاء المؤتمر، وأجرى مندوب عن الوزارة مفاوضات مع منظمي المؤتمر، الذي كان يرأسه المؤرّخ، بروفيسور يسرائيل تشراني، بهدف التوصل إلى تسوية يتم من خلالها إلغاء المؤتمر وحصول المنظمين على تعويض، وهذا الأمر لم يتحقق.
وفي موازاة ذلك، كلّفت وزارة الخارجية الإسرائيلية دبلوماسييها في العالم بمهمة إقناع مشاركين محتملين في المؤتمر أن يلغوا مشاركتهم فيه.
وجاء في وثيقة: “نحاول الآن دفع المدعوين إلى عدم المشاركة في المؤتمر”. وكان فيزل، رئيس المؤتمر، أول الذين قرروا الامتناع عن المشاركة فيه.
الأزمة بين نتنياهو والملك الأردني قد تنعكس على الحدود
تكرس الأزمة “الإسرائيلية” . . سيناريو المعركة الخامسة في الأفق
إسرائيل حسمت بشأن التدخل في الحرب السورية وإسقاط الأسد
وكتب المستشار القضائي للخارجية الإسرائيلية، إليكيم روبنشطاين، الذي أصبح قاضيا في المحكمة العليا: “أقترح توجيه تعليمات للقنصل العام (الإسرائيلي في نيويورك) بالتوجه إلى فيزل ومطالبته بعزل نفسه عن المؤتمر”. وبعد أن قرر الأخير عدم المشاركة، أطلع وزارة الخارجية على معلومات داخلية عن المؤتمر، ساهمت كثيرا في إحباطه، وبضمنها “إلغاء البند الأرمني”، و”منع مناقشته في الهيئة العامة للمؤتمر” ونقل الموضوع الأرمني إلى نقاشات داخلية في مداولات مغلقة في المؤتمر، وبحيث لا يتم النشر عنها. واقترح القنصل أنه “بإمكاننا الادعاء أن المؤتمر لم يطرح الموضوع الأرمني للنقاش”.
حملة دبلوماسية واسعة
كذلك طالبت الخارجية الإسرائيلية سفراءَها باستخدام علاقاتهم من أجل منع وضع بديل لفيزل. وطولب السفير الإسرائيلي في باريس “بالاتصال مع صموئيل فوير وإقناعه بألا يوافق على أن يكون رئيس المؤتمر”. وفوير هو عالم اجتماع أميركي، وجاء في الوثيقة أن “له سمعة دولية وتأثيرا شخصيا واسعا وعدم مشاركته في المؤتمر سيؤدي إلى تراجع مستوى المؤتمر وتقزم حجمه إلى الحد الأدنى”.
كما طولبت السفارة الإسرائيلية في ستوكهولم بالاتصال مع فير أهلمارك، وهو أديب وسياسي شهير، وإبلاغه بأن فيزل “سيقدر جدا إذا لم تشارك في المؤتمر”.
وشملت قائمة الأسماء التي توجه إليها مندوبو الخارجية الإسرائيلية من أجل إقناعهم بالتنازل عن المشاركة في المؤتمر، شخصيات إسرائيلية رفيعة، بينهم رئيس “يد فشم”، يتسحاق أراد، ورئيس مجلس “يد فشم”، غدعون هاوزر، الذي كان المدعي العام في محاكمة النازي أدولف آيخمان، قبل ذلك بنحو عقدين.
والفكرة التي كانت مطروحة حينها هي أنه توجد إشكالية في عقد مؤتمر يتناول المحرقة وإبادة الشعب الأرمني، “ومن شأنه أن يمس بميزات المحرقة”.
ومن خلف الكواليس، تباهت إسرائيل أمام تركيا بنشاطها لإحباط المؤتمر. وجاء في وثيقة أنه “تم التوضيح للمفوض التركي في إسرائيل، أنه في الظروف الحالية انكمش المؤتمر إلى حجم ضئيل جدا وبإدارة مجموعة صغيرة من الأشخاص غير المعروفين ومن دون أي دعم حكومي رسمي أو عام”.
وأوعز المسؤولون في الخارجية الإسرائيلية للدبلوماسيين في أنقرة بإطلاع المسؤولين الأتراك على الجهود التي بذلتها إسرائيل.
كما كشفت إحدى الوثائق أن الخارجية الإسرائيلية تجسست على المؤتمر: “لم يظهر في المكان (المؤتمر) رجال دين أرمن… وحاضَر محاضر أرمني معين حول الموضوع الأرمني. ولم يتم بث فيلم حول الموضوع بسبب تخريب جهاز البث. ولم يظهر في غرف المداولات أكثر من 6 – 7 أشخاص. وشوهد البطريرك يتجول في المكان”.
العلاقات الإسرائيلية – التركية
من الناحية الرسمية، زعم مندوبو إسرائيل أن الدافع لإحباط المؤتمر هو أن تركيا قد تستهدف اليهود من إيران وسورية الذين سيحاولون الهجرة إلى إسرائيل عن طريقها. وقال بروفيسور تشراني في كتاب من تأليفه، صدر الأسبوع الحالي، إن هذا التهديد من جانب تركيا “مختَرَع”.
ويستند تشراني في ذلك إلى وثيقة كتبها القنصل الإسرائيلي العام في إسطنبول، أفنير أرزي، عام 1982، وقال فيها إن التخوف من رد فعل تركي، مفنَّدٌ: “هذا الموضوع لم يكن معروفا لي. ولم تكن هنا في تركيا أي مؤشرات على وجود علاقة بين هذا الموضوع وبين المؤتمر. ومن يعرف تمسُّك تركيا بتقاليدها ومبادئها، بشأن عدم تسليم لاجئين، المشمولة فيها، فإنه لا يعقل أنها كانت قادرة على تشكيل خطر على حياة يهود بتسليمهم إلى السوريين والإيرانيين. وفي الفترة التي تبذل فيها تركيا جهودا من أجل تحسين صورتها في العالم، لا يبدو معقولا أنها كانت ستقدم على عمل ظالم كهذا وتستدعي انتقادات شديدة ضدها من جانب العالم الحرّ”.
لكن من الجهة الأخرى، كتب سفير إسرائيل في تركيا حينها، ألون ليئيل، في برقية أن “الأتراك يظهرون حساسية فائقة، تصل حد عدم العقلانية، في الموضوع الأرمني، وهم ليسوا مستعدين للاعتراف بأحداث 1015 بأنها إبادة الشعب الأرمني. وإذا تضمن المؤتمر البند الأرمني، فإنه ستكون لذلك عواقب خطيرة على العلاقات الإسرائيلية – التركية”.
ونقلت الصحيفة عن روبنشطاين قوله، الأسبوع الحالي، إنه “كانت هنا قيود، مصلحة معينة، وتعين علينا التعامل معها، لأنه كان يمكن أن يكون الأتراك متشددين. وإسرائيل تتحمل مسؤولية عن الموضوع اليهودي في أي مكان”.
المصدر/عرب ٤٨