بينما العالم يُعاني ويلات جائحة “كوفيد-19” وأعداد الإصابة والوفيات تزداد يوميا، تعافت الصين التي كانت بؤرة تفشي الفيروس في معظمها من الجائحة، وباتت تُسجِّل أعدادا أقل تكاد تصل إلى صفر من الحالات في معظم مدنها الكبرى، وقد فكّ البعض اللغز بالتشكيك في الأرقام الرسمية التي تُعلنها الصين معتقدين أنها تتعمّد إخفاء الأرقام الحقيقية. فهل هذا ما حدث فعلا؟ أم أن الصين هزمت كورونا بالعمل الشاق المضني؟ هذا ما يُناقشه هذا التقرير الذي نشرته مجلة “نيو ساينتست”.
بينما الموجة الثانية من جائحة “كوفيد-19” تجتاح نصف الكرة الشمالي، ها هي الحياة تعود إلى طبيعتها بالمُجمل في البلد الذي ظهر فيه الفيروس للمرة الأولى.
عاد الصخب للمطاعم والمحال التجارية في المدن الصينية كما هو الحال في الأماكن السياحية ودور السينما. أمَّا ووهان، حيث شلت إجراءات الإغلاق في نهاية يناير/كانون الثاني الماضي المدينة كلها، ثم حذا العالم حذوها لاحقا، فقد شهدت مؤخرا حفلات مكتظة بالجماهير ومهرجانات للطعام وحفلات حول أحواض السباحة في المنازل.
لم تفرض الصين أبدا إغلاقا عاما على مستوى البلاد، ويبدو أنها مع ذلك نجت من الموجة الجديدة من الإصابات التي شهدتها دول أخرى. وتقول البيانات الرسمية إن معدل انتقال العدوى في المجتمع الصيني منخفض، باستثناء بعض موجات التفشي المحلية ومنها موجة بكين في يونيو/حزيران، وموجة كشغر في أكتوبر/تشرين الأول، وهي موجات لم تُسجِّل سوى بضع مئات الحالات في مجملها.
كان معدل انتشار العدوى في الصين أسرع في بداية السنة الحاليّة، إذ بلغ عدد الحالات المؤكدة في مطلع مارس/آذار الماضي 80 ألف حالة. لكن عدد الحالات المسجلة انخفض بعد ذلك، فبعد ثمانية أشهر منذ ذلك الحين وصل التعداد التراكمي للحالات في الصين إلى 7 آلاف حالة، فهل النجاح الذي حققته الصين أفضل من أن يكون حقيقة؟
تقول جينيفر بوي من مؤسسة راند للأبحاث ومقرها مدينة سانتا مونيكا بولاية كاليفورنيا: “هناك أسباب تدعو إلى التشكيك في دقة أعداد الحالات المسجلة في الصين”، وتضيف بوي أن نظام الإدارة الهرمي الصيني يعني أن الحكومات المحلية غالبا ما تعوق تصعيد المسائل للمسؤولين الأعلى خشية إنذارات لا داعي لها، وتوضح: “هذا السبب من المحتمل جدا أن يجعل إحدى الحكومات الإقليمية تحجب الأرقام، وهو ما قد يكون قد حدث بالفعل في المراحل الأولى لانتشار وباء “كوفيد-19″”.
كاسبرسكي تكشف عن مخططات احتيالية تستغل الحجز المسبق لهاتف “آي فون 12” الجديد
هواوي تستعد لتحديث هواتفها بنظام تشغيل Harmony OS بداية من 18 ديسمبر
مايكروسوفت: مجموعات قرصنة مدعومة دولياً حاولوا قرصنة شركات أدوية وباحثون لسرقة أسرار لقاح كوفيد-19
وبحسب بوي فإن التجارب السابقة أظهرت أنه حالما تصبح الحكومة المركزية الصينية على دراية بطبيعة الأزمة التي تواجهها الصحة العامة، فإنها تفرض عقوبات بالغة على عدم الإبلاغ عن الحالات، وتقول الباحثة: “في 2003 فُصِل نحو ألف من مسؤولي المقاطعات -حتى إن أحدهم كان مسؤولا في بكين- لأن الحكومة المركزية شكّكت في صحة أعداد الحالات التي سجّلوا إصابتها بفيروس سارس”.
يقول بن كولينغ من جامعة هونغ كونغ إن حالة عدم اليقين بوجود فيروس جديد والمعرفة الطبية المحدودة به قد تكون ساعدت في نقص البلاغات التي تزامنت مع بداية انتشار الوباء. قدَّر كولينغ وزملاؤه في مارس/آذار الماضي أنه إذا كان نطاق تشخيص “كوفيد-19 ” قد توسَّع ليشمل الحالات التي لم تظهر عليها أعراض أو متوسطة الأعراض أو هؤلاء الذين لم تربطهم صلة بووهان، فإن الصين كانت من الممكن أن تُسجِّل نحو 232 ألف حالة إصابة في 20 فبراير/شباط بدلا من تسجيلها 55 ألف حالة فقط آنذاك.
علاوة على ذلك، رجَّحت بعض الوثائق المُسرَّبة لـ “سي إن إن” أن الأعداد في البداية ربما كانت أعلى من تلك التي أُعلِن عنها، مثلا سُجِّلت نحو 3900 حالة في 10 فبراير/شباط، لكن بحسب الوثائق فإن المسؤولين كانوا يعلمون أن الأعداد أعلى بما يصل إلى 50%.
ومنذ ذلك الحين ارتفعت طاقة الاختبار جذريا، وتوسّع نطاق التشخيص. ففي أوج انتشار سارس أنشأت الحكومة الصينية نظام إبلاغ قسريا عن الأمراض المعدية الخطيرة، وهو النظام الذي يُستخدم الآن لتتبع حالات الإصابة بفيروس كورونا.
يقول كولينغ: “أثق أنه بوجود هذا النظام فإنه لا توجد حالات مُشخَّصة لم تُسجَّل”، فهو يعتقد أن ما تُعلِن عنه الإحصاءات الوطنية هي أرقام دقيقة، مع أنه بالطبع هناك حالات مفقودة دائما، وأضاف كولينغ: “متأكد من أنه قد تكون هناك إصابات لم تُلاحَظ أو تُسجَّل، كما هو الحال في بقية دول العالم”.
حلَّل كلٌّ من كريستوفر كوتش من بنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس، وكين أوكامورا من جامعة أوكسفورد، بيانات “كوفيد-19” الصينية لشهر مايو/أيار باستخدام تقنية الكشف عن الاحتيال الإحصائي، ولم يجدا أي دليل على التلاعب، مُستنتجين أن توزيع الحالات في الصين كان مماثلا لنظيره في أميركا وإيطاليا.
تقول زوي هايد من جامعة غرب أستراليا: “كنت أُشكِّك في الأرقام التي سجّلتها الصين في البداية، لكن من الواضح أنهم نجحوا في احتواء الفيروس، وإن كانت هناك بؤر تفشٍّ ضخمة في المدن الصينية حاليا فإننا سنشهد دليلا على ذلك”.
تُشير مختلف العلامات إلى بلد يُحكِم سيطرته على الفيروس إلى حدٍّ كبير. فقد هوت العديد من الدول الأخرى إلى الكساد بينما كان الاقتصاد الصيني يُحقِّق نموا في الربع الثالث من العام الجاري، إذ أعلن المكتب الوطني الصيني للإحصاء في 19 أكتوبر/تشرين الأوّل نمو اقتصاد الدولة بنحو 4.9% في الفترة بين يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول مقارنة بالفترة نفسها في عام 2019.
وانتعشت رحلات الطيران المحلية انتعاشا كبيرا، وخلال ما يُعرَف بعطلة الأسبوع الذهبي الوطنية في الصين التي بدأت في الأول من أكتوبر/تشرين الأوّل سجّلت البلاد 637 مليون رحلة محلية، بحسب وزارة الثقافة والسياحة، أي ما يصل إلى 80% من الرقم المسجل العام الماضي.
تُعتبر استجابة الصين السريعة لاحتواء موجات التفشي هي سر نجاحها حتى الآن، ويُرجِّح تحليل البيانات الذي أجراه شي تشين من جامعة ييل وزملاؤه أن الصين تجنّبت ما يُقدَّر بأكثر من 1.4 مليون إصابة و56 ألف وفاة نتيجة الإجراءات المفروضة منذ يناير/كانون الثاني الماضي مثل إغلاق مدن بالكامل وقيود السفر المحلية والحجر الصحي الإجباري.
في بكين التي شهدت تفشيا يرتبط بسوق شينفادي للطعام في يونيو/حزيران، أغلقت الحكومة مقاطعات عدة محيطة بالسوق، وأجرت اختبارات جماعية وعمليات تتبع للمخالطين خلال تلك الفترة، ويقول كولينغ: “إن تطبيق مثل هذه الإجراءات القاسية أمر مُكلِّف للغاية أكثر بكثير من إجراءات الصحة العامة المُطبَّقة في أي مكان آخر من العالم”.
كما تُشير هايد إلى أن الصين نجت من مواجهة موجة ثانية من الجائحة، ويُعزى السبب إجمالا إلى حظرها دخول الرعايا الأجانب إلى البلاد، فتقول: “انتهجت كوريا الجنوبية نهجا آخر، إذ فرضت حجرا صحيا إجباريا على الوافدين، ورغم أنها سجّلت حالات عدوى بين الوافدين من الخارج فإن ذلك لم يُمثِّل مشكلة حقيقية لأن المجتمع محمي”.
ويُشير شي تشين إلى أن نهج الصين كان أكثر صرامة وتشدُّدا من النهج الكوري الجنوبي والياباني، وهو أمر يراه تشين منطقيا لأن الصين لديها عدد أسرَّة في وحدات العناية المركزة أقل بالنسبة لعدد السكان مما هو موجود في اليابان وكوريا الجنوبية، فيقول تشين: “من وجهة نظر مراعية للبنية التحتية الصحية فإن الصين أقل استعدادا لمواجهة تفشيات واسعة النطاق”.
علاوة على ذلك، يُوضِّح شي أن الصين لا تملك نظام تأمين اجتماعي قويا، ونسبة أصحاب الوظائف التي يمكن إنجازها عن بُعد أقل مما هي عليه في دول أخرى مثل الولايات المتحدة. هذان العاملان كانا مؤثرين في الطريقة الحاسمة التي تعاملت بها الصين مع الجائحة، حتى تتجنّب عدم الاستقرار الاجتماعي الناتج عن البطالة الجماعية.
كانت الاستجابة العالية بين الصينيين عاملا مؤثرا أيضا. ففي مطلع أكتوبر/تشرين الأوّل عندما جاءت اختبارات “كوفيد-19” إيجابية لاثنين من العاملين في مجال استيراد المأكولات البحرية في شمال شرق مدينة تشينغداو، سارعت الحكومة المحلية بإجراء اختبارات على المدينة كاملة التي يبلغ تعدادها 10 ملايين نسمة في غضون خمسة أيام فقط.
تقول فان وهي إحدى سكان مدينة تشينغداو التي وقفت في طابور لمدة 4 ساعات لإجراء اختبار “كوفيد-19”: “لقد اعترى الناس القلق وأرادوا إجراء الاختبار في أسرع وقت ممكن. كانت الجماهير متعاونة جدا، إذ كانوا يبدؤون الاصطفاف أمام وحدة إجراء الاختبارات من الساعة الخامسة صباحا، بينما كانت الوحدة تفتح أبوابها في السابعة صباحا”.
وتقول بوي إن المعدل المرتفع للادخار بين الأُسر الصينية قد يكون ساعد كثيرا في زيادة رغبة الصينيين بالامتثال لإجراءات الإغلاق. ففي المتوسط، يدخر الصينيون أكثر من ثلث دخلهم الشهري بقليل، وهي نسبة أعلى من نظرائهم في الدول الأخرى مرتفعة الدخل.
وكما هو الحال في أستراليا ونيوزيلندا اللتين أوشكتا على التغلب على الفيروس فإن أشهرا من العمل المضني يمكن أن تذهب هباء في ومضة عين، إذ يقول كولينغ: “أعتقد حالات العدوى سوف ترتفع مرة أخرى في ربوع الصين عاجلا أم آجلا كما حدث في دول أخرى”.
في 25 أكتوبر/تشرين الأول اكتُشفت بؤرة تفشي لـ “كوفيد-19” في كشغر غرب مقاطعة سنجان، وذلك بعد أن جاء اختبار بنت في السابعة عشرة من عمرها إيجابيا في اليوم السابق، وكان من غير المعروف طريقة التقاطها للعدوى. بعدها، اكتُشفت أكثر من 180 حالة إيجابية بالتتابع، كلها على صلة بالمصنع الذي كانت تعيش الفتاة وتعمل فيه.
تُعتَبر مقاطعة سنجان موطنا لمعظم السكان الإيغور الصينيين، وأثارت التفشيات هناك القلق من انتشار الفيروس بين المخيمات التي يُحتَجز فيها مئات آلاف الإيغور. كما أعلنت الصحافة الرسمية الصينية فرض إغلاق على مدينة كشغر، وإجراء اختبارات على 4.7 ملايين شخص في أربعة أيام. كما أدّى اكتشاف حالات جديدة في شنغهاي وتيانجين في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني، على صلة بمجال استيراد الأطعمة المجمدة، إلى إجراء اختبارات واسعة النطاق وفرض الإغلاق.
يبقى أن نرى ما إذا كان احتواء الصين لانتشار الفيروس سيستمر، خصوصا في أشهر الشتاء التي تفرض على السكان البقاء في منازلهم، ويقول تشي: “إذا اتبعت الصين إستراتيجية الاستجابة السريعة نفسها، فأعتقد أن الأمور قد تبقى تحت السيطرة”.
المصدر : مواقع إلكترونية+ الجزيرة