نزح مليون سوري من ريفي إدلب وحلب خلال ٧٥ يوماً. تزداد يوماً بعد يوم معاناتهم خلال هروبهم من الموتإلى المجهول مع تصاعد وتيرة العمليات العسكرية في شمال غربي سوريا.
“نسير على صوت بكاء وصراخ الأطفال والنساء وصوت انقضاض الطائرات الحربية الروسية وغاراتها وقذائف المدفعية وراجمات صواريخ النظام وتحت جنح الظلام، في مشهد يطغى عليه الخوف والذهول خرجت وأسرتي وأحفادي“، بهذه الكلمات تحدث أبو منذر بعد نزوحه من سراقب شرقي إدلب. وأضاف: “تلك الليلة كانت أقسى وأصعب ليلة مرت بحياتي، حيث سرت حينها وأفراد أسرتي مشياً على الأقدام أحمل أحد أحفادي إلى جانب هم لاتحمله جبال العالم. همنا الوحيد ومئات الأسر من مدينتنا حينها هو الابتعاد عن أبنية المدينة التي باتت هدفاً مباشراً لكل أنواع أسلحة النظام والروس خوفاً من الموت“.
عدد من السيارات الفارغة لمتطوعين كانت في انتظارهم، على أطراف المدينة وقاموا بنقلهم دون اصطحاب أي شيء من الحاجات، نحو منطقة الدانا القريبة من الحدود التركية و“لجأنا إلى هذا الجبل القريب منها، بضيافة أسرة نازحة من ريف حلب الجنوبي كانوا أيضاً قد استقبلونا دون معرفة سابقة وأقمنا عندهم لثلاثة أيام ريثما قدمت لنا إحدى المنظمات الإنسانية خيمتين وعدداً من فرشات الإسفنج وأغطية، فيما قدمت لنا منظمة أخرى سلة تحوي مواد غذائية“. وقال أبو منذر: “أتمنى العودة إلى منزلي ومدينتي التي عشت فيها سنوات عمري الستين إلى جانب أبنائي وأحفادي بأقرب وقت، ولكن دون أن يكون نظام الأسد حاكماً لسوريا“.
على بعد أمتار من مكان خيمة أبو منذر، تقيم أم إبراهيم في خيمة متواضعة لجأت إليها مؤخراً وأبناؤها هاربة من قريتها تل الطوقان شرقي إدلب بسبب القصف وعمليات النظام العسكرية. لم تستطع إخفاء حزنها وقلة حيلتها على تحمل أعباء الحياة في ظل النزوح لا سيما أنها فقدت زوجها قبل عام بسبب القصف على قريتها وعبرت عن ذلك ببضع كلمات قائلة: “أرجو من الله أن لا يطيل علينا هذا الحال حيث لا دفء ولا مال أعين أسرتي به على تكاليف الحياة سوى سلة غذائية شهرية من إحدى المنظمات بالكاد تكفينا أنا وأسرتي لمدة شهر ريثما تأتي الأخرى“. وأضافت أنها في هذه الظروف ليس بإمكانها تأمين حتى ألبسة شتوية لأبنائها الخمسة الذين لا تتجاوزأعمارهم العاشرة. وبدل أن يتلقوا التعليم يقومون بشكل يومي بجمع أكياس البلاستيك وبعض أعواد القش كوقود للتدفئة ليلاً.
لجأ “أبو ممدوح” مؤخراً إلى جبل حزرة بمحيط مدينة الدانا وعن تجربته يقول: “هذه المرة هي الثانية التي أنزح فيها، حيث كانت المرة الأولى قبل 3 سنوات حين نزحت وأسرتي من قريتي بريف حلب الجنوبي ولجأت إلى قرية كفر حلب بريف حلب الغربي مصطحباً قطيعا من الأغنام كنت قد عملت على تربيته لسنوات طويلة حتى وصل بنا المطاف إلى هذا الجبل الوعر حيث لا أعشاب ولا مراعي للقطيع مثل الكثيرين غيري من أبناء بلدتي واجهوا ذات المصيرمؤخراً“. وأضاف أنه يفكر حالياً ببيع قسم من قطيعه للتخفيف من كلفة إطعامه الذي يعتمد بالدرجة الأولى على الأعلاف في ظل انعدام المراعي في مثل هذه المناطق الجبلية وبذلك يكون قد خسر نصف قطيعه مقابل إنقاذ النصف الآخر للأيام المجهولة.
خيام في العراء
مع تدفق آلاف النازحين من مناطق ريف إدلب وغرب حلب وعدم قدرة المدن شمال سوريا على استيعابهم، باتت الجبال القريبة من الحدود التركية الملاذ الآمن والأخير أمام النازحين.
سامر الحسين ناشط في المجال الإنساني والتوثيق، قال بأن الخيار الأخير أمام النازحين هو اللجوء إلىالمناطق القريبة من الشريط الحدودي التركي باعتباره منطقة آمنة إلى حد ما بنظرهم. وأشار إلى أنه تم إنشاء ما يقارب 30 مخيماً جديداً للنازحين في مناطق دارة عزة وحزرة والدانا ودير حسان وعقربات وكفرلوسين وكلبيت وبابسقا وباب الهوى الحدودي وسرمدا أوت ما يزيد عن سبعة آلاف أسرة. وأضاف أن عددا من الأسر هي بالأصل كانت نازحة من ريف حماة وغيرها من المناطق السورية ضمن مخيمات بريف إدلب الشرقي وريف حلب الغربي، وعندما لجأت إلى هذه الجبال جلبت معها خيامها وأقامت مخيمات فيها، بينما النازحون من أبناء تلك المناطق واجهوا ظروفاً صعبة لعدة أيام ريثما قامت بعض الجمعيات والمنظمات الإنسانية بمد يد المساعدة لهم وتقديم الخيام وبعض المستلزمات الإنسانية والحياتية لهم كالطعام وخزانات مياه.
نزح “أبو خالد” مؤخراً من منطقة معرة النعمان إلى مخيم جديد في جبل البردغلي القريب من الحدود التركية ويشارك تجربته: “لم يكن بالحسبان الظروف الصعبة التي نواجهها الآن في هذا المخيم قاسي الطبيعة والصخور وكنا قد اخترنا هذا المكان لتلافي مشاكل غرق الخيام في أرض مستوية وذات تربة كثيفة نتيجة الأمطار والسيول التي أغرقت مخيمات كثيرة“. وأضاف أن” إنشاء المخيمات العشوائية وسط الجبال دون البدء بتنظيمها بطرق وشوارع قبل وضع الخيام يشكل صعوبة بالغة أمام النازحين من حيث تأمين الخدمات مثل تأمين مياه الشرب والمستلزمات الحياتية الأخرى، وغالباً ما نقوم بحمل جالونات مياه الشرب لمئات الأمتار إلى خيامنا لعدم وجود طرق تسهل علينا ذلك بسبب الصخور ووعورة الجبال”. وأوضح “بينما نستفيد الآن من جمع مياه الأمطار ببعض الأواني وأسقف الخيام للاستعمالات المنزلية كالغسيل والجلي، وكنا قد ناشدنا عدة منظمات بتقديم المساعدة لشق الطرق إلى أن الاستجابة ما زالت ضعيفة بحجة عدم توفر الكلفة المالية لذلك”.
موت من البرد
الناشط الإعلامي محمود الإدلبي، قال إن 8 مدنيين بينهم أطفال ماتوا “بسبب البرد وموجة الصقيع في مخيماتالنازحين السوريين ونتيجة استخدام وسائل تدفئة غير صحية نظراً لغياب وسائل التدفئة الصحية كالحطب وارتفاعأسعار الوقود، بينهم عائلة كاملة (أب وأم وثلاثة أطفال) ماتوا إختناقاً بسبب استنشاقهم الدخان السام المتصاعد من المدفأة نتيجة استعمال البلاستيك المستعمل كوسيلة تدفئة داخل الخيمة في أحد المخيمات العشوائية غرب مدينة سرمدا، وتوفي 3 أطفال آخرين تتراوح أعمارهم بين السنة و 3 سنوات في مخيم أطمة نتيجة تعرضهم للبرد الشديد وإصابات في الرئتين في مخيم أطمة الحدودي شمال إدلب“.
مصعب القاسم مسؤول في “مركز مخيم كفرلوسين الطبي“، قال بأن تدفق آلاف النازحين بشكل مفاجئ تزامن مع موجة برد قاسية وصقيع وانخفاض كبير بدرجات الحرارة وصلت في الأيام الماضية إلى 7 تحت الصفروانعكس ذلك على صحة النازحين بسبب اعتمادهم على وسائل بدائية وغير صحية في التدفئة والطبخ كالبلاستيك والأحذية المستعملة وغيرها وانبعاث الدخان السام منها داخل الخيام، ما تسبب ذلك بحالات مرضية كبيرة بين الأطفال وتحديداً الرضع منهم، تمثلت بالتهاب القصبات والرئتين وضيق بالتنفس. وأضاف القاسم: “بشكل يومي تردنا عشرات الحالات المرضية للأطفال النازحين إلى المركز ومراكز أخرى نقدم لهم الإسعافات الأولية كـالرذاذ والأكسجين والعلاج الوقائي ضد الالتهاب، إلا أن ذلك ليس حلاً مثالياً لتلافي الأمراض بين النازحين ونتخوف من ارتفاع نسبة المرضى إلى حد ليس بوسعنا تغطيته وتقديم العلاج اللازم لهم“.
تشير الإحصائيات الأخيرة بحسب ناشطين محليين إلى أن عدد النازحين في مناطق الشمال السوري يتجاوز مليوني شخص من مدن دمشق وريفها وحماة ودرعا وحمص وأرياف إدلب وحلب يتوزعون في مخيمات ضمن مناطق حدودية مختلفة وعدد كبير من النازحين يقيمون في المدارس والمساجد وأبنية قيد الإنشاء غير صالحة للسكن. ووفق الأمم المتحدة، فإن النزاع السوري تسبب بأكبر أزمة لجوء في العالم منذ الحرب العالمية الثانية مع فرار5.5 مليون شخص من البلاد ونزوح أكثر من 6.6 مليون داخله.
وأفاد “المرصد السوري لحقوق الإنسان” بأن أعداد النازحين في حلب وإدلب تخطت حاجز المليون شخص، وذلك بعد اتساع رقعة العمليات العسكرية التي تقوم بها قوات النظام وروسيا.
المصدر/ وكالات