حيدر عيد
حدثان أوروبيان هامان طغيا على الأحداث الأسبوع المنصرم، وأديا إلى نقاشات غاية في الأهمية بخصوص القضية الفلسطينية بشكل عام، وحركة المقاطعة بشكل خاص. ويأتي هذان الحدثان بعد أقل من أسبوعين من الهجمة الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة المحاصر، والتي أدت إلى استشهاد 28 مدنيًا، بينهم سيدتان في حالة حمل، ورضيعتان، فضلًا عن تدمير المئات من الوحدات السكنية. المذهل هو أن هذه الجرائم يتكرر حدوثها كل فترة دون أي محاسبة دولية رسمية، وليس هنا مجال الحديث عن الفشل السياسي في استثمار هذه التضحيات الهائلة. ما يهمنا في هذا السياق هو الربط بين هذه الجرائم والمحاسبة القاعدية التي تمثلها حركة المقاطعة الفلسطينية ذات الامتدادات العالمية (بي دي إس).
الحدث الأول هو تصويت البرلمان الألماني (البوندستاغ)، يمينًا ويسارًا، على قرار اعتبار حركة المقاطعة حركة معادية للسامية بأغلبية كبيرة. تكمن المفارقة في أن هذا القرار الإقصائي، غير الديمقراطي، المخالف للدستور الألماني ولقرار البرلمان الأوروبي عام 2016 في “الحق في المقاطعة”، يصدر عن دولة لها تاريخ حافل بمعاداة السامية في أبشع أشكالها، وصولًا لارتكاب الفظائع في الحرب العالمية الثانية بناء على أسس هوياتية أدت في المحصلة النهائية لإبادات يعرفها القاصي والداني.
تكمن المفارقة الأولى تاريخيًا، في أن أصحاب الاقتراح هم امتداد لليمين المتطرف الذي يعتبر نفسه امتدادا للتيارات الشوفينية التي سيطرت على مقاليد الحكم في ألمانيا في منتصف القرن المنصرم. أما المفارقة الأخرى، تكمن في أن الشعب الفلسطيني هو من يدفع ثمن عقدة الذنب المستأصلة في الوعي الجمعي الغربي، الألماني تحديدًا، بعد تصدير ما اصطلح على تسميته “بالمسألة اليهودية” إلى الشرق الأوسط. وأصبح الخلط المتعمد بين إسرائيل واليهودية هو السائد، على الرغم من كون الأولى مشروع استعمار استيطاني قام على أساس التطهير العرقي والتفرقة العنصرية، وكلاهما يندرجان تحت جرائم الحرب بامتياز.
من الضروري في هذا السياق، الإشارة إلى أن البرلمانيين الألمان بالضرورة يعلمون جيدًا بأن حركة المقاطعة تستلهم شعاراتها من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي لا يميز بين بني البشر على أساس الدين أو العرق أو الجنس… إلخ، بل على العكس من ذلك، فإن نشطاء المقاطعة الفاعلين يصرون على عدم استهداف أفراد إسرائيليين على أساس هوياتي، والتركيز على المؤسسات الإسرائيلية التي تستفيد من نظام القمع الصهيوني المركب من احتلال وأبارتهيد واستعمار استيطاني، وكل تلك الأفعال مدانة من قبل الشرعية الدولية. ولكن من الواضح أن الدم الفلسطيني لا يحرك مشاعر النخبة الحاكمة في ألمانيا، كما لم يحرك الدم اليهودي مشاعر آبائهم!
الحدث الثاني هو إقامة مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجين)، في مدينة تل أبيب، وحضور المغنية الأميركية مادونا كضيفة شرف في النهائيات. فمنذ ترشح إسرائيل لاستضافة هذا الحدث الفني العالمي الأهم بعد فوزها بالمرتبة الأولى عام 2018 في البرتغال، وإعلانها عن نيتها إقامته في مدينة القدس المحتلة، كونها “العاصمة الأبدية،” قامت حركة المقاطعة الفلسطينية بحملة عالمية على مدار العام أدت في المحصلة النهائية إلى فشل ذريع للمهرجان من حيث عدد السياح، والمشاهدين، وفشل في بيع عدد كبير من التذاكر، وبالتالي خسارة مادية كبيرة للمستضيفين. في نفس الوقت تمت إقامة حفلات فنية بديلة موازية في عدد من الدول الأوروبية، من إيرلندا إلى بريطانيا، وفرنسا…إلخ. كذلك تم إقامة مسابقة عالمية باسم (غلوبلفيجن) بمشاركة العديد من الفنانين. كما تم الدعوة للتوقيع على عرائض عدة، حيث تخطى عدد الموقعين على تلك العرائض الـ150 ألفًا، إضافة إلى الرسائل التي وقعت من قبل المئات من الفنانين في فرنسا وبريطانيا وإيرلندا، والتي طالبت المتسابقين في مهرجان “يوروفيجن” بمقاطعته.
نقطتان هامتان في هذا السياق، الأولى هي أن المطالبة الفلسطينية بمقاطعة المهرجان كانت تعبر عن موقف شبه إجماع فلسطيني تبنته الغالبية الساحقة من مؤسسات المجتمع المدني وقوى الشعب الفلسطيني الحية الموقعة على نداء المقاطعة الذي صدر في العام 2005. كذلك هي تعبير عن موقف معظم المؤسسات الثقافية والفنية، كما عبرت عنه البيانات التي صدرت في الضفة الغربية وقطاع غزة بتوقيع هذه المؤسسات. ولكن الدور الريادي الذي قام بتوجيه الدفة يعود للحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، والتي قامت بصياغة وإرسال العديد من الرسائل، وتنسيق العديد من الفعاليات التي لعبت دورًا واضحًا وفعالًا في إفشال المهرجان.
النقطة الثانية تتعلق بالنقاش الذي دار بين العديد من النشطاء والناشطات الفاعلين/ات وغير الفاعلين/ات، حول ما قامت به فرقة “هتاري” الأيسلندية والمغنية مادونا، من رفع للعلم الفلسطيني أمام شاشات التلفاز في الحالة الأولى، ورفعه على ظهر راقص بجانب العلم الإسرائيلي في الحالة الثانية. والحقيقة أن هذا النقاش كان عادة ما يثار في حالات التطبيع العربي، ولكن هذه المرة وصل إلى معايير التطبيع على الصعيد الدولي. الكثير من هذه النقاشات عاطفية تقوم على أساس أن ما قامت به الفرقة الأيسلندية فعل كبير يستوجب الإطراء والثناء، متناسية أن مشاركة الفرقة في هذا الحدث ينطبق عليه حرفيًا تعريف التطبيع كما أقره الشعب الفلسطيني ممثلا بمجتمعه المدني وقواه السياسية.
من أبجديات التضامن الجدي، كما يقول المناضلون الجنوب أفارقة، هو الاستجابة لنداء المضطَهَد دون إملاء الشروط عليه. وبالتالي وإن كان ما قامت به الفرقة الأيسلندية قد أشعرنا بـ “يوفوريا” عاطفية محدودة كوننا نرى العلم الفلسطيني في وسط تل أبيب، إلا أن ذلك يأتي في سياق عدم احترام مطالب المضطَهَد الذي أعلنت فرقة “هتاري” تأييدها للبعض منها.
إن من حدد معايير المقاطعة ضد نظام الأبارتهيد الجنوب أفريقي في القرن المنصرم، هم الأفارقة أنفسهم، وليس المتضامن الأبيض معهم. وهذا ما يعرفه العديد من الفنانين الأوروبيين وعلى رأسهم الفنان البريطاني روجر ووترز، حينما أعلنوا تأييدهم لمقاطعة مهرجان “يوروفيجين”. ولكن الحقيقة القاسية أن البعض منا لا زال يعاني من عقدة “الخواجة” الأبيض لدرجة أن بعض النقاشات تطرقت “للثمن الباهظ” الذي دفعته الفرقة الأيسلندية، وكأن ذلك يقارن بما ندفعه نحن الفلسطينيون يوميا بالقرب من السلك الشائك لسجن غزة وعلى نقاط التفتيش، وتحت الهجمات الجوية المتكررة. ناهيك عن حصار “إبادي” لغزة سيؤدي، وفقًا للأمم المتحدة، لاستحالة الحياة في القطاع بعد عامين!
لا رفع العلم الفلسطيني لثوان أمام شاشة التلفاز في تل أبيب، ولا الرقص بجانب العلمين، يلغي حقيقة أن من شارك في المسابقة قد قوض معايير المقاطعة، وبالتالي ساهم في تبييض وجه إسرائيل الملطخ بدماء أطفالنا وآهات نسائنا!
وتبقى حركة مقاطعة إسرائيل، الـ”بي دي إس”، أداة المحاسبة الوحيدة الفعالة في هذا التوقيت بالذات